فصل: تفسير الآية رقم (13)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ‏}‏‏.‏

ينهى تبارك وتعالى عن موالاة الكافرين في آخر ‏"‏هذه السورة‏"‏ كما نهى عنها في أولها فقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ اليهود والنصارى وسائر الكفار، ممن غضب الله عليه ولعنه واستحق من الله الطرد والإبعاد، فكيف توالونهم وتتخذونهم أصدقاء وأخلاء وقد يئسوا من الآخرة، أي‏:‏ من ثواب الآخرة ونعيمها في حكم الله عز وجل‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ‏}‏ فيه قولان، أحدهما‏:‏ كما يئس الكفار الأحياء من قراباتهم الذين في القبور أن يجتمعوا بهم بعد ذلك؛ لأنهم لا يعتقدون بعثا ولا نشورا، فقد انقطع رجاؤهم منهم فيما يعتقدونه‏.‏

قال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ‏}‏ إلى آخر السورة، يعني من مات من الذين كفروا فقد يئس الأحياء من الذين كفروا أن يرجعوا إليهم أو يبعثهم الله عز وجل‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ ‏{‏كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ‏}‏ قال‏:‏ الكفار الأحياء قد يئسوا من الأموات‏.‏

وقال قتادة‏:‏ كما يئس الكفار أن يرجع إليهم أصحاب القبور الذين ماتوا‏.‏ وكذا قال الضحاك‏.‏ رواهن ابن جرير‏.‏

والقول الثاني‏:‏ معناه‏:‏ كما يئس الكفار الذين هم في القبور من كل خير‏.‏

قال الأعمش، عن أبي الضُّحَى، عن مسروق، عن ابن مسعود‏:‏ ‏{‏كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ‏}‏ قال‏:‏ كما يئس هذا الكافر إذا مات وعاين ثوابه واطلع عليه‏.‏ وهذا قول مجاهد، وعكرمة، ومقاتل، وابن زيد، والكلبي، ومنصور‏.‏ وهو اختيار ابن جرير‏.‏

تفسير سورة الصف

وهي مدنية‏.‏

قال الإمام أحمد رحمه الله‏:‏ حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة- وعن عطاء بن يسار، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلام قال‏:‏ تذاكرنا‏:‏ أيكم يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسأله‏:‏ أي الأعمال أحب إلى الله‏؟‏ فلم يقم أحد منا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا رجلا فجمعنا فقرأ علينا هذه السورة، يعني سورة الصف كلها‏.‏ هكذا رواه الإمام أحمد

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا العباس بن الوليد بن مَزْيد البيروتي قراءة قال‏:‏ أخبرني أبي، سمعت الأوزاعي، حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، حدثني عبد الله بن سلام‏.‏ أن أناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ لو أرسلنا إلى رسول الله نسأله عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل‏؟‏ فلم يذهب إليه أحد منا، وهبنا أن نسأله عن ذلك، قال‏:‏ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر رجلا رجلا حتى جمعهم، ونزلت فيهم هذه السورة‏:‏‏(‏سبح‏)‏‏}‏ الصف قال عبد الله بن سلام‏:‏ فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها‏.‏ قال أبو سلمة‏:‏ وقرأها علينا عبد الله بن سلام كلها، قال يحيى بن أبي كثير وقرأها علينا أبو سلمة كلها‏.‏ قال الأوزاعي‏:‏ وقرأها علينا يحيى بن أبي كثير كلها‏.‏ قال أبي‏:‏ وقرأها علينا الأوزاعي كلها‏.‏

وقد رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي‏:‏ حدثنا محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلام قال‏:‏ قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا، فقلنا‏:‏ لو نعلم‏:‏ أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل لعملناه‏.‏ فأنزل الله‏:‏ ‏"‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ‏[‏كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا‏]‏ ‏"‏ قال عبد الله بن سلام‏:‏ فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال أبو سلمة‏:‏ فقرأها علينا ابن سلام‏.‏ قال يحيى‏:‏ فقرأها علينا أبو سلمة‏.‏ قال ابن كثير‏:‏ فقرأها علينا الأوزاعي‏.‏ قال عبد الله‏:‏ فقرأها علينا ابن كثير‏.‏

ثم قال الترمذي‏:‏ وقد خولف محمد بن كثير في إسناد هذا الحديث عن الأوزاعي، فروى ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن سلام- أو‏:‏ عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلام

قلت‏:‏ وهكذا رواه الإمام أحمد، عن يعمر، عن ابن المبارك، به

قال الترمذي‏:‏ وروى الوليد بن مسلم هذا الحديث عن الأوزاعي، نحو رواية محمد بن كثير‏.‏

قلت‏:‏ وكذا رواه الوليد بن يزيد، عن الأوزاعي، كما رواه ابن كثير‏.‏

قلت‏:‏ وقد أخبرني بهذا الحديث الشيخ المسند أبو العباس أحمد بن أبي طالب الحجار قراءة عليه وأنا أسمع، أخبرنا أبو المُنَجَّا عبد الله بن عُمَر بن اللَّتي أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شُعَيب السَّجْزيّ قال‏:‏ أخبرنا أبو الحسن بن عبد الرحمن بن المظفر بن محمد بن داود الداودي، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حَمَّوَية السرَخسِيّ، أخبرنا عيسى بن عُمَر بن عمران السمرقندي، أخبرنا الإمام الحافظ أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بجميع مسنده أخبرنا محمد بن كثير، عن الأوزاعي‏.‏‏.‏‏.‏ فذكر بإسناده مثله، وتسلسل لنا قراءتها إلى شيخنا أبي العباس الحجار، ولم يقرأها، لأنه كان أميا، وضاق الوقت عن تلقينها إياه‏.‏ ولكن أخبرني الحافظ الكبير أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، رحمه الله‏:‏ أخبرنا القاضي تقي الدين سليمان بن الشيخ أبي عمر، أخبرنا أبو المنجا بن اللَّتي فذكره بإسناده، وتَسلل لي من طريقة، وقرأها علي بكمالها، ولله الحمد والمنة‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ‏}‏‏.‏

تقدم الكلام على قوله‏:‏ ‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ غير مرة، بما أغنى عن إعادته‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ‏}‏‏؟‏ إنكار على من يَعد عدَةً، أو يقول قولا لا يفي به، ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقا، سواء ترتب عليه غُرم للموعود أم لا‏.‏ واحتجوا أيضا من السنة بما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏آية المنافق ثلاث‏:‏ إذا حَدَّث كذب، إذا وَعَد أخلف، وإذا اؤتمن خان‏"‏ وفي الحديث الآخر في الصحيح‏:‏ ‏"‏أربع من كن فيه كان منافقا خالصًا، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خَصْلَة من نفاق حتى يَدَعها‏"‏- فذكر منهن إخلاف الوعد‏.‏ وقد استقصينا الكلام على هذين الحديثين في أول ‏"‏شرح البخاري‏"‏، ولله الحمد والمنة‏.‏ ولهذا أكد الله تعالى هذا الإنكار عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ‏}‏ وقد روى الإمام أحمدُ وأبو داود، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال‏:‏ أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏[‏في بيتنا‏]‏ وأنا صبي قال‏:‏ فذهبت لأخرج لألعب، فقالت أمي‏:‏ يا عبد الله‏:‏ تعال أعطك‏.‏ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏وما أردت أن تُعطِيه‏؟‏‏"‏‏.‏ قالت‏:‏ تمرا‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏أما إنك لو لم تفعلي كُتِبت عليك كِذْبة‏"‏

وذهب الإمام مالك، رحمه الله، إلى أنه إذا تعلق بالوعد غُرم على الموعود وجب الوفاء به، كما لو قال لغيره‏:‏ ‏"‏تزوج ولك علي كل يوم كذا‏"‏‏.‏ فتزوجَ، وجب عليه أن يعطيه ما دام كذلك، لأنه تعلق به حق آدمي، وهو مبني على المضايقة‏.‏ وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب مطلقا، وحملوا الآية على أنها نزلت حين تمنوا فَرضِيَّة الجهاد عليهم، فلما فرض نكل عنه بعضهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 77، 78‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ‏}‏ الآية ‏[‏محمد‏:‏ 20‏]‏ وهكذا هذه الآية معناها، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ‏}‏ قال‏:‏ كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون‏:‏ لَوَدِدْنَا أن الله- عز وجل- دلنا على أحب الأعمال إليه، فنعملَ به‏.‏ فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمانٌ به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به‏.‏ فلما نزل الجهاد كره ذلك أناس من المؤمنين، وشق عليهم أمره، فقال الله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ‏}‏‏؟‏‏.‏ وهذا اختيار ابن جرير‏.‏

وقال مقاتل بن حَيّان‏:‏ قال المؤمنون‏:‏ لو نعلم أحبّ الأعمال إلى الله لعملنا به‏.‏ فدلهم الله على أحب الأعمال إليه، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا‏}‏ فبين لهم، فابتلوا يوم أحد بذلك، فولوا عن النبي صلى الله عليه وسلم مدبرين، فأنزل الله في ذلك‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ‏}‏‏؟‏ وقال‏:‏ أحبكم إلي من قاتل في سبيلي‏.‏

ومنهم من يقول‏:‏ أنزلت في شأن القتال، يقول الرجل‏:‏ ‏"‏قاتلت‏"‏، ولم يقاتل وطعنت‏"‏ ولم يطعن و‏"‏ضربت‏"‏، ولم يضرب و‏"‏صبرت‏"‏، ولم يصبر‏.‏

وقال قتادة، والضحاك‏:‏ نزلت توبيخًا لقوم كانوا يقولون‏:‏ ‏"‏قتلنا، ضربنا، طعنا، وفعلنا‏"‏‏.‏ ولم يكونوا فعلوا ذلك‏.‏وقال ابن يزيد‏:‏ نزلت في قوم من المنافقين، كانوا يَعدون المسلمين النصرَ، ولا يَفُون لهم بذلك‏.‏

وقال مالك، عن زيد بن أسلم‏:‏ ‏{‏لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ‏}‏‏؟‏، قال‏:‏ في الجهاد‏.‏

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ‏}‏ فما بين ذلك‏:‏ في نفر من الأنصار، فيهم عبد الله بن رواحة، قالوا في مجلس‏:‏ لو نعلم أيّ الأعمال أحبّ إلى الله، لعملنا بها حتى نموت‏.‏ فأنزل الله هذا فيهم‏.‏ فقال عبد الله بن رواحة‏:‏ لا أبرح حبيسا في سبيل الله حتى أموت‏.‏ فقتل شهيدًا‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا فروة بن أبي المغراء، حدثنا علي بن مُسْهِر عن داود بن أبي هند، عن أبي حرب بن أبي الأسود الديلي عن أبيه قال‏:‏ بعث أبو موسى إلى قراء أهل البصرة، فدخل عليه منهم ثلاثمائة رجل، كلهم قد قرأ القرآن، فقال‏.‏ أنتم قراء أهل البصرة وخيارهم‏.‏ وقال‏:‏ كنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات، فأنسيناها، غير أني قد حفظت منها‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ‏}‏ فتكتب شهادة في أعناقكم، فتسألون عنها يوم القيامة‏.‏

ولهذا قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ‏}‏ فهذا إخبار منه تعالى بمحبة عباده المؤمنين إذا اصطفوا مواجهين لأعداء الله في حومة الوغى، يقاتلون في سبيل الله مَن كفر بالله، لتكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر العالي على سائر الأديان‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا هُشَيْم، قال مُجالد أخبرنا عن أبي الودَّاك، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ثلاث يضحك الله إليهم‏:‏ الرجل يقوم من الليل، والقوم إذا صفوا للصلاة، والقوم إذا صفوا للقتال‏"‏‏.‏

ورواه ابن ماجة من حديث مجالد، عن أبي الوَدَّاك جبر بن نوف، به‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو نُعَيم الفضل بن دُكَيْن، حدثنا الأسود- يعني ابن شيبان- حدثني يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير قال‏:‏ قال مُطرَف‏:‏ كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه، فلقيته فقلت‏:‏ يا أبا ذر، كان يبلغني عنك حديث، فكنت أشتهي لقاءك، فقال‏:‏ لله أبوك ‏!‏ فقد لقيت، فهات‏.‏ فقلت‏:‏ كان يبلغني عنك أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثكم أن الله يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة‏؟‏ قال‏:‏ أجل، فلا إخالني أكذب على خليلي صلى الله عليه وسلم‏.‏ قلت‏:‏ فمن هؤلاء الثلاثة الذين يحبهم الله‏؟‏ قال‏:‏ رجل غزا في سبيل الله، خرج محتسبا مجاهدا فلقي العدو فقتل، وأنتم تجدونه في كتاب الله المنزل، ثم قرأ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ‏}‏ وذكر الحديث‏.‏ هكذا أورد هذا الحديث من هذا الوجه بهذا السياق، وبهذا اللفظ، واختصره‏.‏ وقد أخرجه الترمذي والنسائي من حديث شعبة، عن منصور بن المعتمر، عن رِبْعَي بن حِرَاش، عن زيد بن ظَبْيان، عن أبي ذَرّ بأبسط من هذا السياق وأتم وقد أوردناه في موضع آخر، ولله الحمد‏.‏

وعن كعب الأحبار أنه قال‏:‏ يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏عبدي المتوكل المختار ليس بفَظّ ولا غَليظ ولا صَخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر مولده بمكة، وهجرته بطابة، وملكه بالشام، وأمته الحمادون يحمَدُون الله على كلّ حال، وفي كل منزلة، لهم دَوِيٌّ كدوي النحل في جو السماء بالسحَر، يُوَضّون أطرافهم، ويأتزرون على أنصافهم، صفهم في القتال مثل صفهم في الصلاة‏"‏‏.‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ‏}‏ رعاة الشمس، يصلون الصلاة حيث أدركتهم، ولو على ظهر دابة‏"‏ رواه بن أبي حاتم‏.‏

وقال سعيد بن جبير في قوله ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا‏}‏ قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاتل العدو إلا أن يصافهم، وهذا تعليم من الله للمؤمنين‏.‏ قال‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ‏}‏ ملتصق بعضه في بعض، من الصف في القتال‏.‏

وقال مقاتل بن حيان‏:‏ ملتصق بعضه إلى بعض‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ‏}‏ مُثَبّت، لا يزول، ملصق بعضه ببعض‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ‏}‏ ألم تر إلى صاحب البنيان، كيف لا يحب أن يختلف بنيانه‏؟‏ فكذلك الله عز وجل ‏[‏يحب أن‏]‏ لا يختلف أمره، وإن الله صف المؤمنين في قتالهم وصفهم في صلاتهم، فعليكم بأمر الله، فإنه عصمة لمن أخذ به‏.‏ أورد ذلك كله ابن أبي حاتم‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني سعيد بن عَمرو السكوني، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن يحيى بن جابر الطائي، عن أبي بحرية قال‏:‏ كانوا يكرهون القتال على الخيل، ويستحبون القتال على الأرض، لقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ‏}‏ قال‏:‏ وكان أبو بحرية يقول‏:‏ إذا رأيتموني التفتُّ في الصف فَجَثُوا في لَحيي

تفسير الآية رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ‏}‏‏.‏

يقول تعالى مخبرًّا عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام أنه قال لقومه‏:‏ ‏{‏لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ لم توصلون الأذى إليّ وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة‏؟‏‏.‏ وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أصاب من الكفار من قومه وغيرهم، وأمر له بالصبر؛ ولهذا قال‏:‏ ‏"‏رحمة الله على موسى‏:‏ لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر‏"‏ وفيه نهي للمؤمنين أن ينالوا من النبي صلى الله عليه وسلم أو يُوَصّلوا إليه أذى، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 69‏]‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى، وأسكنها الشك والحيرة والخذلان، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 110‏]‏ وقال ‏{‏وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 115‏]‏ ولهذا قال الله تعالى في هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ‏}‏ يعني‏:‏ التوراة قد بَشَّرَت بي، وأنا مصداقُ ما أخبرت عنه، وأنا مُبَشّر بمن بعدي، وهو الرسول النبي الأمي العربي المكي أحمد‏.‏ فعيسى، عليه السلام، وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وقد أقام في ملأ بني إسرائيل مبشرًا بمحمد، وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي لا رسالة بعده ولا نبوة‏.‏ وما أحسن ما أورد البخاري الحديثَ الذي قال فيه‏:‏

حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري قال‏:‏ أخبرني محمد بن جُبَير بن مُطعم، عن أبيه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إن لي أسماء‏:‏ أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يَمحُو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب‏"‏‏.‏

ورواه مسلم، من حديث الزهري، به نحوه

وقال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا المسعودي، عن عمرو بن مُرّة، عن أبي عُبَيدة، عن أبي موسى قال‏:‏ سَمَّى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نَفسه أسماءً، منها ما حفظنا فقال‏:‏ ‏"‏أنا محمد، وأنا أحمد، والحاشر، والمقفي، ونبي الرحمة، والتوبة، والملحمة‏"‏‏.‏

ورواه مسلم من حديث الأعمش، عن عمرو بن مرة، به

وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 81‏]‏

قال ابن عباس‏:‏ ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد‏:‏ لئن بعث محمد وهو حي ليتبعنه، وأخذ عليه أن يأخذ على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليتبعنه وينصرنه‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني ثور بن يَزيد، عن خالد بن مَعْدَانَ، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا‏:‏ يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏دعوة أبي إبراهيم، وبُشْرَى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام‏"‏‏.‏

وهذا إسناد جيد‏.‏ ورُوي له شواهد من وجوه أخر، فقال الإمام أحمد‏:‏

حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح، عن سعيد بن سُوَيد الكلبي، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن العِرْباض بن سارية قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجَدلٌ في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك دَعْوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يَرَين‏"‏‏.‏

وقال أحمد أيضا‏:‏ حدثنا أبو النضر، حدثنا الفرج بن فضالة، حدثنا لقمان بن عامر قال‏:‏ سمعت أبا أمامة قال‏:‏ قلت يا نبي الله، ما كان بدء أمرك‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏دعوة أبي إبراهيم، وبُشْرَى عيسى، ورأت أمي أنه يخرجُ منها نور أضاءت له قصورُ الشام‏"‏

وقال أحمد أيضا‏:‏ حدثنا حسن بن موسى‏:‏ سمعت خُدَيجًا أخا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحوٌ من ثمانين رجلا منهم‏:‏ عبد الله بن مسعود، وجعفر، وعبد الله بن ‏[‏عُرْفُطَة‏]‏ وعثمان بن مظعون، وأبو موسى‏.‏ فأتوا النجاشي، وبعثَت قريش عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد بهدية، فلما دخلا على النجاشي سَجَدا له، ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله، ثم قالا له‏:‏ إن نفرًا من بني عمنا نزلوا أرضك، ورغبوا عنا وعن ملتنا‏.‏ قال‏:‏ فأين هم‏؟‏ قالا هم في أرضك، فابعث إليهم‏.‏ فبعث إليهم‏.‏ فقال جعفر‏:‏ أنا خطيبكم اليوم‏.‏ فاتبعوه فسلَّم ولم يسجد، فقالوا له‏:‏ ما لك لا تسجد للملك‏؟‏ قال‏:‏ إنا لا نسجد إلا لله عز وجل‏.‏ قال وما ذاك‏؟‏ قال‏:‏ إن الله بعث إلينا رسوله، فأمرنا ألا نسجد لأحد إلا لله عز وجل، وأمرنا بالصلاة والزكاة‏.‏

قال عمرو بن العاص‏:‏ فإنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم‏.‏ قال‏:‏ ما تقولون في عيسى ابن مريم وأمه‏؟‏ قالوا‏:‏ نقول كما قال الله عز وجل‏:‏ هو كلمة الله وروحه ألقاها إلى العذراء البَتُول، التي لم يمسها بَشَر ولم يَفْرضْها ولد‏.‏ قال‏:‏ فرفع عودًا من الأرض ثم قال‏:‏ يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان، والله ما يزيدون على الذي نقول فيه، ما يساوي هذا‏.‏ مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي نجد في الإنجيل، وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم‏.‏ انزلوا حيث شئتم، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه وأوضئه‏.‏ وأمَرَ بهدية الآخرَين فردت إليهما، ثم تعجل عبد الله بن مسعود حتى أدرك بدرًا، وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر له حين بلَغه موته

وقد رُويت هذه القصةُ عن جعفر وأم سلمة رضي الله عنهما، وموضع ذلك كتاب السيرة‏.‏ والمقصد أن الأنبياء عليهم السلام لم تزل تنعته وتحكيه في كتبها على أممها، وتأمرهم باتباعه ونصره وموازرته إذا بعث‏.‏ وكان ما اشتهر الأمر في أهل الأرض على لسان إبراهيم الخليل والد الأنبياء بعده، حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم، وكذا على لسان عيسى ابن مريم؛ ولهذا قالوا‏:‏ ‏"‏أخبرنا عن بَدْء أمرك‏"‏ يعني‏:‏ في الأرض، قال‏:‏ ‏"‏دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى ابن مريم، ورؤيا أمي التي رأت‏"‏ أي‏:‏ ظهر في أهل مكة أثر ذلك والإرهاص بذكره صلوات الله وسلامه عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ‏}‏ قال ابن جريج وابن جرير‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمْ‏}‏ أحمد، أي‏:‏ المبشر به في الأعصار المتقادمة، المنَّوه بذكره في القرون السالفة، لما ظهر أمره وجاء بالبينات قال الكفرة والمخالفون‏:‏ ‏{‏هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإسْلامِ‏}‏ أي‏:‏ لا أحد أظلم ممن يفتري الكذب على الله ويجعل له أندادا وشركاء، وهو يدعى إلى التوحيد والإخلاص؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ يحاولون أن يَرُدّوا الحق بالباطل، ومثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس بفيه، وكما أن هذا مستحيل كذلك ذاك مستحيل ؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ‏}‏ وقد تقدم الكلام على هاتين الآيتين في سورة ‏"‏براءة‏"‏، بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنة

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 13‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

تقدم في حديث عبد الله بن سلام أن الصحابة، رضي الله عنهم، أرادوا أن يسألوا عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل ليفعلوه، فأنزل الله هذه السورة، ومن جملتها هذا الآية‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ثم فسر هذه التجارة العظيمة التي لا تبور، والتي هي محصلة للمقصود ومزيلة للمحذور فقال‏:‏ ‏{‏تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ من تجارة الدنيا، والكد لها والتصدي لها وحدها‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ إن فعلتم ما أمرتكم به ودللتكم عليه، غفرت لكم الزلات، وأدخلتكم الجنات، والمساكن الطيبات، والدرجات العاليات؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا‏}‏ أي‏:‏ وأزيدكم على ذلك زيادة تحبونها، وهي‏:‏ ‏{‏نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ‏}‏ أي‏:‏ إذا قاتلتم في سبيله ونصرتم دينه، تكفل الله بنصركم‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 7‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 40‏]‏ وقوله ‏{‏وَفَتْحٌ قَرِيبٌ‏}‏ أي‏:‏ عاجل فهذه الزيادة هي خير الدنيا موصول بنعيم الآخرة، لمن أطاع الله ورسوله، ونصر الله ودينه؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ‏}‏‏.‏

يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين أن يكونوا أنصار الله في جميع أحوالهم، بأقوالهم وأفعالهم وأنفسهم وأموالهم، وأن يستجيبوا لله ولرسوله، كما استجاب الحواريون لعيسى حين قال‏:‏ ‏{‏مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ‏}‏‏؟‏ أي‏:‏ معيني في الدعوة إلى الله عز وجل‏؟‏ ‏{‏قَالَ الْحَوَارِيُّونَ‏}‏- وهم أتباع عيسى عليه السلام- ‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ نحن أنصارك على ما أرسلت به ومُوَازروك على ذلك؛ ولهذا بعثهم دعاةً إلى الناس في بلاد الشام في الإسرائيليين واليونانيين‏.‏ وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في أيام الحج‏:‏ ‏"‏من رجل يُؤويني حتى أبلغ رسالة ربي، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي‏"‏ حتى قيَّض الله عز وجل له الأوس والخزرج من أهل المدينة، فبايعوه ووازروه، وشارطوه أن يمنعوه من الأسود والأحمر إن هو هاجر إليهم، فلما هاجر إليهم بمن معه من أصحابه وَفَوا له بما عاهدوا الله عليه؛ ولهذا سماهم الله ورسوله‏:‏ الأنصار، وصار ذلك علما عليهم، رضي الله عنهم، وأرضاهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ‏}‏ أي‏:‏ لما بلغ عيسى ابن مريم عليه السلام رسالة ربه إلى قومه، ووازره من وازره من الحواريين، اهتدت طائفة من بني إسرائيل بما جاءهم به، وضلت طائفة فخرجت عما جاءهم به، وجحدوا نبوته، ورموه وأمه بالعظائم، وهم اليهود- عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة- وغلت فيه طائفة ممن اتبعه، حتى رفعوه فوق ما أعطاه الله من النبوة، وافترقوا فِرَقا وشِيَعا، فمن قائل منهم‏:‏ إنه ابن الله‏.‏ وقائل‏:‏ إنه ثالث ثلاثة‏:‏ الأب، والابن، وروح القدس‏.‏ ومن قائل‏:‏ إنه الله‏.‏ وكل هذه الأقوال مفصلة في سورة النساء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ‏}‏ أي‏:‏ نصرناهم على من عاداهم من فِرَق النصارى، ‏{‏فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ عليهم، وذلك ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله‏.‏

حدثني أبو السائب، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المِنْهال- يعني ابن عمرو- عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ لما أراد الله عز وجل أن يرفع عيسى إلى السماء، خرج إلى أصحابه وهم في بيت اثنا عشر رجلا من عين في البيت، ورأسه يقطر ماء، فقال‏:‏ إن منكم من يكفر بي اثنتي عشر مرة بعد أن آمن بي‏.‏ قال‏:‏ ثم قال‏:‏ أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني، ويكون معي في درجتي‏؟‏ قال‏:‏ فقام شاب من أحدثهم سنا فقال‏:‏ أنا‏.‏ قال‏:‏ فقال له‏:‏ اجلس‏.‏ ثم أعاد عليهم، فقام الشاب فقال‏:‏ أنا‏.‏ فقال له‏:‏ اجلس‏.‏ ثم عاد عليهمفقام الشاب، فقال‏:‏ أنا‏.‏ فقال‏:‏ نعم، أنت ذاك‏.‏ قال‏:‏ فألقي عليه شبه عيسى، ورُفع عيسى عليه السلام من روزَنة في البيت إلى السماء، قال‏:‏ وجاء الطلَبُ من اليهود، فأخذوا شِبهَه فقتلوه وصلبوه، وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به، فتفرقوا فيه ثلاث فرق‏.‏ فقالت فرقة‏:‏ كان الله فينا ما شاء، ثم صعد إلى السماء‏.‏ وهؤلاء اليعقوبية‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ كان فينا ابن الله ما شاء، ثم رفعه إليه وهؤلاء النسطورية، وقالت فرقة كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه اليه، وهؤلاء المسلمون فتظاهرت الكافرتان على المسلمة، فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، ‏{‏فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ الطائفة التي كفرت من بني إسرائيل في زمن عيسى، والطائفة التي آمنت في زمن عيسى، ‏{‏فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ‏}‏ بإظهار محمد صلى الله عليه وسلم دينهم على دين الكفار ‏{‏فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ‏}‏‏.‏

هذا لفظه في كتابه عند تفسير هذه الآية الكريمة‏.‏ وهكذا رواه النسائي عند تفسير هذه الآية من سننه، عن أبي كُرَيْب عن محمد بن العلاء، عن أبي معاوية، بمثله سواء‏.‏

فأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يزالون ظاهرين على الحق، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، وحتى يقاتل آخرهم الدجال مع المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، كما وردت ‏[‏بذلك‏]‏ الأحاديث الصحاح، والله أعلم‏.‏

تفسير سورة الجمعة

وهي مدنية‏.‏

عن ابن عباس، وأبي هريرة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين‏.‏ رواه مسلم في صحيحه‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏}‏‏.‏

يخبر تعالى أنه يُسبّح له ما في السموات وما في الأرض، أي‏:‏ من جميع المخلوقات ناطقها وجامدها، كما قال‏:‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 44‏]‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ‏}‏ أي‏:‏ هو مالك السموات والأرض المتصرف فيهما بحكمه، وهو ‏{‏الْقُدُّوسِ‏}‏ أي‏:‏ المنزه عن النقائص، الموصوف بصفات الكمال ‏{‏الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ تقدم تفسيره غير مرة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ‏}‏ الأميون هم‏:‏ العرب كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 314‏]‏ وتخصيص الأميين بالذكر لا ينفي من عداهم، ولكن المنة عليهم أبلغ وآكد، كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 44‏]‏ وهو ذكر لغيرهم يتذكرون به‏.‏ وكذا قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 214‏]‏ وهذا وأمثاله لا ينافي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 158‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 19‏]‏ وقوله إخبارا عن القرآن‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 17‏]‏، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق أحمرهم وأسودهم، وقد قدمنا تفسير ذلك في سورة الأنعام، بالآيات والأحاديث الصحيحة، ولله الحمد والمنة‏.‏وهذه الآية هي مصداق إجابة الله لخليله إبراهيم، حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة‏.‏ فبعثه الله سبحانه وتعالى وله الحمد والمنة، على حين فترة من الرسل، وطُمُوس من السبل، وقد اشتدت الحاجة إليه، وقد مقت الله أهلَ الأرض عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب- أي‏:‏ نزرا يسيرا- ممن تمسك بما بعث الله به عيسى ابن مريم عليه السلام؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ‏}‏ وذلك أن العرب كانوا ‏[‏قديما‏]‏ متمسكين بدين إبراهيم ‏[‏الخليل‏]‏ عليه السلام فبدلوه وغيروه، وقلبوه وخالفوه، واستبدلوا بالتوحيد شركا وباليقين شكا، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله وكذلك أهل الكتابين قد بدلوا كتبهم وحرفوها وغيروها وأولوها، فبعث الله محمدًا صلوات الله وسلامه عليه بشرع عظيم كامل شامل لجميع الخلق، فيه هدايتهم، والبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم، والدعوة لهم إلى ما يقربهم إلى الجنة، ورضا الله عنهم، والنهي عما يقربهم إلى النار وسخط الله‏.‏ حاكم، فاصل لجميع الشبهات والشكوك والريب في الأصول والفروع‏.‏ وجمَعَ له تعالى، وله الحمد والمنة، جميع المحاسن ممن كان قبله، وأعطاه ما لم يُعطِ أحدًا من الأولين، ولا يعطيه أحدًا من الآخرين، فصلوات الله وسلامه عليه ‏[‏دائمًا‏]‏ إلى يوم الدين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ قال الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله‏.‏

حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا سليمان بن بلال، عن ثور، عن أبي الغَيث، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة‏:‏ ‏{‏وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ‏}‏ قالوا‏:‏ من هم يا رسول الله‏؟‏ فلم يراجعهم حتى سئل ثلاثا، وفينا سلمان الفارسي، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال‏:‏ ‏"‏لو كان الإيمان عند الثُّرَيَّا لناله رجال- أو‏:‏ رجل- من هؤلاء‏"‏‏.‏

ورواه مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن جرير، من طرق عن ثور بن زيد الدِّيلي عن سالم أبي الغيث، عن أبي هريرة، به

ففي هذا الحديث دليل على أن هذه السورة مدنية، وعلى عموم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس؛ لأنه فسر قوله‏:‏ ‏{‏وَآخَرِينَ مِنْهُمْ‏}‏ بفارس؛ ولهذا كتب كتبه إلى فارس والروم وغيرهم من الأمم، يدعوهم إلى الله عز وجل، وإلى اتباع ما جاء به؛ ولهذا قال مجاهد وغير واحد في قوله‏:‏ ‏{‏وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ‏}‏ قال‏:‏ هم الأعاجم، وكل من صدق النبي صلى الله عليه وسلم من غير العرب‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا أبو محمد عيسى بن موسى، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال ‏[‏من أصحابي رجالا‏]‏ ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب‏"‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ بقية من بقي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ أي‏:‏ ذو العزة والحكمة في شرعه وقدره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏}‏ يعني‏:‏ ما أعطاه الله محمدا صلى الله عليه وسلم من النبوة العظيمة، وما خص به أمته من بعثته صلى الله عليه وسلم إليهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 8‏]‏

‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

يقول تعالى ذامًّا لليهود الذين أعطوا التوراة وحملوها للعمل بها، فلم يعملوا بها، مثلهم في ذلك كمثل الحمار يحمل أسفارا، أي‏:‏ كمثل الحمار إذا حمل كتبا لا يدري ما فيها، فهو يحملها حملا حسيا ولا يدري ما عليه‏.‏ وكذلك هؤلاء في حملهم الكتاب الذي أوتوه، حفظوه لفظا ولم يفهموه ولا عملوا بمقتضاه، بل أولوه وحرفوه وبدلوه، فهم أسوأ حالا من الحمير؛ لأن الحمار لا فهمَ له، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها؛ ولهذا قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 179‏]‏ وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

وقال الإمام أحمد رحمه الله‏:‏ حدثنا ابن نُمَير، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب، فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا، والذي يقول له ‏"‏أنصت‏"‏، ليس له جمعة‏"‏ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ أي‏:‏ إن كنتم تزعمون أنكم على هدى، وأن محمدا وأصحابه على ضلالة، فادعوا بالموت على الضال من الفئتين ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ فيما تزعمونه‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ أي‏:‏ بما يعلمون لهم من الكفر والظلم والفجور، ‏{‏وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ‏}‏ وقد قدمنا في سورة ‏"‏البقرة‏"‏ الكلام على هذه المباهلة لليهود، حيث قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 94- 96‏]‏ وقد أسلفنا الكلام هناك وبينا أن المراد أن يدعوا على الضال من أنفسهم أو خصومهم، كما تقدمت مباهلة النصارى في آل عمران‏:‏ ‏{‏فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 61‏]‏ ومباهلة المشركين في سورة مريم‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 75‏]‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا إسماعيل بن يزيد الرقي أبو يزيد، حدثنا فرات، عن عبد الكريم بن مالك الجزري، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ قال أبو جهل لعنه الله‏:‏ إن رأيتُ محمدا عند الكعبة لآتينَّه حتى أطأ على عُنُقه‏.‏ قال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لو فعل لأخذَته الملائكة عيانًا، ولو أن اليهود تَمَنَّوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار‏.‏ ولو خرج الذين يُباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا‏.‏

رواه البخاري والترمذي، والنسائي، من حديث عبد الرزاق عن معمر، عن عبد الكريم، ‏[‏به‏]‏ قال البخاري‏:‏ ‏"‏وتبعه عمرو بن خالد، عن عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم‏"‏‏.‏ ورواه النسائي، أيضا عن عبد الرحمن بن عبد الله الحلَبِي، عن عبيد الله بن عمرو الرقي، به أتم

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ كقوله تعالى في سورة النساء‏:‏ ‏{‏أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 78‏]‏

وفي معجم الطبراني من حديث معاذ محمد بن محمد الهذلي، عن يونس، عن الحسن، عن سَمُرَة مرفوعا‏:‏ ‏"‏مثل الذي يفر من الموت كمثل الثعلب تطلبه الأرض بدين، فجاء يسعى حتى إذا أعيا وانبهر دخل جحره، فقالت له الأرض‏:‏ يا ثعلب ديني‏.‏ فخرج له حُصَاص، فلم يزل كذلك حتى تقطعت عنقه، فمات‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 11‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ‏}‏‏.‏

إنما سميت الجمعة جمعة؛ لأنها مشتقة من الجمع، فإن أهل الإسلام يجتمعون فيه في كل أسبوع مَرَّةً بالمعابد الكبار وفيه كَمُل جميع الخلائق، فإنه اليوم السادس من الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض‏.‏ وفيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها‏.‏ وفيه تقوم الساعة‏.‏ وفيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحاح‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عَبِيدة بن حُمَيد، عن منصور، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن علقمة، عن قَرْثَع الضبي، حدثنا سلمان قال‏:‏ قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يا سلمان، ما يوم الجمعة‏؟‏‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يوم جُمع فيه أبواك- أو أبوكم‏"‏

وقد رُوي عن أبي هُريرة، من كلامه، نحو هذا، فالله أعلم‏.‏

وقد كان يقال له في اللغة القديمة يوم العروبة‏.‏ وثبت أن الأمم قبلنا أمروا به فَضَلّوا عنه، واختار اليهود يوم السبت الذي لم يقع فيه خلق واختار النصارى يومَ الأحد الذي ابتدئ فيه الخلق، واختار الله لهذه الأمة ‏[‏يوم‏]‏ الجمعة الذي أكمل الله فيه الخَليقَةَ، كما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن همام بن مُنَبِّه قال‏:‏ هذا ما حدثنا أبو هُرَيرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا‏.‏ ثم هذا يَومُهم الذي فَرض الله عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تَبَعٌ، اليهود غدًا، والنصارى بعد غد‏"‏ لفظ البخاري‏.‏

وفي لفظ لمسلم‏:‏ ‏"‏أضل الله من كان قبلنا فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد‏.‏ فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضي بينهم قبل الخلائق‏"‏‏.‏

وقد أمر الله المؤمنين بالاجتماع لعبادته يوم الجمعة، فقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ اقصدوا واعمدوا واهتموا في مَسيركم إليها، وليس المراد بالسعي هاهنا المشي السريع، وإنما هو الاهتمام بها، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 19‏]‏ وكان عمر بن الخطاب وابن مسعود رضي الله عنهما يقرآنها‏:‏ ‏"‏فامضوا إلى ذكر الله‏"‏‏.‏ فأما المشي السريع إلى الصلاة فقد نهي عنه، لما أخرجاه في الصحيحين، عن أبي هُرَيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة، وعليكم السكينة والوقار، ولا تُسرِعوا، فما أدركتم فصَلُّوا، وما فاتكم فأتموا‏"‏‏.‏ لفظ البخاري

وعن أبي قتادة قال‏:‏ بينما نحن نُصَلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع جَلَبة رجال، فلما صلى قال‏:‏ ‏"‏ما شأنكم‏؟‏‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ استعجلنا إلى الصلاة‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة فامشوا وعليكم بالسكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا‏"‏‏.‏ أخرجاه

وقال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، ولكن ائتوها تمشون، وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا‏"‏‏.‏

رواه الترمذي، من حديث عبد الرزاق كذلك وأخرجه من طريق يزيد بن زُرَيع، عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، بمثله

قال الحسن أما والله ما هو بالسعي على الأقدام، ولقد نُهُوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار، ولكن بالقلوب والنية والخشوع‏.‏

وقال قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ يعني‏:‏ أن تسعى بقلبك وعملك، وهو المشي إليها، وكان يتأولُ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 102‏]‏ أي‏:‏ المشي معه‏.‏ روي عن محمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وغيرهما نحو ذلك‏.‏

ويستحَب لمن جاء الجمعة أن يغتسل قبل مجيئه إليها، لما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عُمَر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إذا جاء أحدُكم الجمعةَ فَلْيغتسل‏"‏

ولهما عن أبي سعيد، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏غُسلُ يوم الجمعة واجب على كل مُحتَلِم‏"‏

وعن أبي هُرَيرة، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام، يغسل رأسه وجسده‏"‏‏.‏ رواه مسلم

وعن جابر، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏على كل رجل مسلم في كل سبعة أيام غسل يوم، وهو يوم الجمعة‏"‏‏.‏ رواه أحمد، والنسائي، وابن حبان

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أوس بن أوس الثقفي قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏من غَسَّل واغتسل يوم الجمعة، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام واستمع ولم يَلْغُ كان له بكل خطوة أجر سنة، صيامها وقيامها‏"‏‏.‏

وهذا الحديث له طرق وألفاظ، وقد أخرجه أهل السنن الأربعة وحَسَّنَهُ الترمذي

وعن أبي هُرَيرة، رضي الله عنه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من اغتسل يوم الجمعة غُسلَ الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنه، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر‏"‏ أخرجاه

ويستحب له أن يلبس أحسن ثيابه، ويتطيب ويتسوك، ويتنظف ويتطهر‏.‏ وفي حديث أبي سعيد المتقدم‏:‏ ‏"‏غسلُ يوم الجمعة واجب على كل محتلم، والسواكُ، وأن يَمَس من طيب أهله‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن إبراهيم التيمي، عن عمران بن أبي يحيى، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبي أيوب الأنصاري‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏من اغتسل يوم الجمعة ومَس من طيب أهله- إن كان عنده- ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع - إن بدا له- ولم يُؤذ أحدا، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي، كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى‏"‏

وفي سنن أبي داود وابن ماجة، عن عبد الله بن سلام، رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر‏:‏ ‏"‏ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مِهْنَته‏"‏ وعن عائشة رضي الله عنها‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم الجمعة، فرأى عليهم ثياب النّمار، فقال‏:‏ ‏"‏ما على أحدكم إن وجد سَعَة أن يتخذ ثوبين لجمعته، سوى ثوبي مهنته‏"‏‏.‏ رواه ابن ماجة

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ‏}‏ المراد بهذا النداء هو النداء الثاني الذي كان يفعل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج فجلس على المنبر، فإنه كان حينئذ يؤذن بين يديه، فهذا هو المراد، فأما النداء الأول الذي زاده أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، فإنما كان هذا لكثرة الناس، كما رواه البخاري رحمه الله حيث قال‏:‏ حدثنا آدم- هو ابن أبي إياس- حدثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن السائب بن يزيد قال‏:‏ كان النداء يوم الجمعة أولهُ إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان ‏[‏بعد زمن‏]‏ وكثر الناس، زاد النداء الثاني على الزوراء يعني‏:‏ يؤذن به على الدار التي تسمى بالزوراء، وكانت أرفع دار بالمدينة، بقرب المسجد‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا محمد بن راشد المكحولى، عن مكحول‏:‏ أن النداء كان في يوم الجمعة مؤذن واحد حين يخرج الإمام، ثم تقام الصلاة، وذلك النداء الذي يحرم عنده البيع الشراء إذا نودي به، فأمر عثمان، رضي الله عنه، أن ينادى قبل خروج الإمام حتى يجتمع الناس‏.‏

وإنما يؤمر بحضور الجمعة ‏[‏الرجال‏]‏ الأحرار دون النساء والعبيد والصبيان، ويعذر المسافر والمريض، وقَيّم المريض، وما أشبه ذلك من الأعذار، كما هو مقرر في كتب الفروع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَذَرُوا الْبَيْعَ‏}‏ أي‏:‏ اسعوا إلى ذكر الله واتركوا البيع إذا نودي للصلاة‏:‏ ولهذا اتفق العلماء رضي الله عنهم على تحريم البيع بعد النداء الثاني‏.‏ واختلفوا‏:‏ هل يصح إذا تعاطاه متعاط أم لا‏؟‏ على قولين، وظاهر الآية عدم الصحة كما هو مقرر في موضعه، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ ترككم البيع وإقبالكم إلى ذكر الله وإلى الصلاة خيرٌ لكم، أي‏:‏ في الدنيا والآخرة إن كنتم تعلمون‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ‏}‏ أي‏:‏ فُرغ منها، ‏{‏فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ‏}‏ لَمَّا حَجَر عليهم في التصرف بعد النداء وأمرهم بالاجتماع، أذن لهم بعد الفراغ في الانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله‏.‏ كما كان عرَاك بن مالك رضي الله عنه إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد، فقال‏:‏ اللهم إني أجبتُ دعوتَك، وصليتُ فريضتك، وانتشرت كما أمرتني،فارزقني من فضلك، وأنت خير الرازقين‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وروي عن بعض السلف أنه قال‏:‏ من باع واشترى في يوم الجمعة بعد الصلاة، بارك الله له سبعين مرة، لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ أي‏:‏ حال بيعكم وشرائكم، وأخذكم وعَطَائكم، اذكروا الله ذكرا كثيرا، ولا تشغلكم الدنيا عن الذي ينفعكم في الدار الآخرة؛ ولهذا جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏من دخل سوقا من الأسواق فقال‏:‏ لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير كُتبت له ألفُ ألف حَسنة، ومُحي عنه ألفُ ألف سَيئة‏"‏

وقال مجاهد‏:‏ لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا، حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا‏.‏

‏{‏وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ واللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ‏}‏‏.‏

يعاتب تبارك وتعالى على ما كان وقع من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي قدمت المدينة يومئذ، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا‏}‏ أي‏:‏ على المنبر تخطب‏.‏ هكذا ذكره غير واحد من التابعين، منهم‏:‏ أبو العالية، والحسن، وزيد بن أسلم، وقتادة‏.‏

وزعم مقاتل بن حيان‏:‏ أن التجارة كانت لدحية بن خليفة قبل أن يسلم، وكان معها طبل، فانصرفوا إليها وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا على المنبر إلا القليل منهم‏.‏ وقد صَحّ بذلك الخبر، فقال الإمام أحمد‏:‏

حدثنا ابن إدريس، عن حُصَين، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر قال‏:‏ قَدمَت عيرٌ المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فخرج الناس وبقي اثنا عشر رجلا فنزلت‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا‏}‏‏.‏

أخرجاه في الصحيحين، من حديث سالم، به

وقال الحافظ أبو يعلى‏:‏ حدثنا زكريا بن يحيى، حدثنا هُشَيم، عن حُصَين، عن سالم بن أبي الجعد وأبي سفيان، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقدمت عيرٌ إلى المدينة، فابتدرها أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده، لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد، لسال بكم الوادينارًا‏"‏ ونزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا‏}‏ وقال‏:‏ كان في الاثني عشر الذين ثَبَتُوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أبو بكر، وعمر، رضي الله عنهما‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَتَرَكُوكَ قَائِمًا‏}‏ دليل على أن الإمام يخطب يوم الجمعة قائما‏.‏ وقد رَوَى مسلم في صحيحه عن جابر بن سَمُرَة قال‏:‏ كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما، يقرأ القرآن ويذكر الناس‏.‏

ولكن هاهنا شيء ينبغي أن يُعلَم وهو‏:‏ أن هذه القصة قد قيل‏:‏ إنها كانت لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدّم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة، كما رواه أبو داود في كتاب المراسيل‏:‏ حدثنا محمود بن خالد، عن الوليد، أخبرني أبو معاذ بُكَير بن مَعروف، أنه سمع مُقَاتل بن حَيَّان يقول‏:‏ ‏"‏كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي يوم الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين، حتى إذا كان يوم والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وقد صلى الجمعة، فدخل رجل فقال‏:‏ إن دحيةَ بن خليفة قد قدمَ بتجارة يعني‏:‏ فانفضوا، ولم يبق معه إلا نفر يسير‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ الذي عند الله من الثواب في الدار الآخرة ‏{‏خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ‏}‏ أي‏:‏ لمن توكل عليه، وطلب الرزق في وقته‏.‏

تفسير سورة المنافقون

وهي مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ‏}‏‏.‏

يقول تعالى مخبرًا عن المنافقين‏:‏ إنهم إنما يتفوهون بالإسلام إذا جاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فأما في باطن الأمر فليسوا كذلك، بل على الضدّ من ذلك؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ إذا حَضَروا عندك واجهوك بذلك، وأظهروا لك ذلك، وليسوا كما يقولون‏:‏ ولهذا اعترض بجملة مخبرة أنه رسول الله، فقال‏:‏ ‏{‏اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ‏}‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ‏}‏ أي‏:‏ فيما أخبروا به، وإن كان مطابقًا للخارج؛ لأنهم لم يكونوا يعتقدون صحة ما يقولون ولا صدقه؛ ولهذا كذبهم بالنسبة إلى اعتقادهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ اتقوا الناس بالأيمان الكاذبة والحَلْفات الآثمة، ليصدقوا فيما يقولون، فاغتر بهم من لا يعرف جلية أمرهم، فاعتقدوا أنهم مسلمون فربما اقتدى بهم فيما يفعلون وصدقهم فيما يقولون، وهم من شأنهم أنهم كانوا في الباطن لا يألون الإسلام وأهله خَبَلا فحصل بهذا القدر ضرر كبير على كثير من الناس ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ولهذا كان الضحاك بن مُزَاحم يقرؤها‏:‏ ‏"‏اتَّخَذُوا إيمَانَهُمْ جُنَّةً‏"‏ أي‏:‏ تصديقهم الظاهر جُنَّة، أي‏:‏ تقية يتقون به القتل‏.‏ والجمهور يقرؤها‏:‏‏}‏ ‏{‏أيمانهم‏}‏ جمع يمين‏.‏

‏[‏وقوله‏]‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ‏}‏ أي‏:‏ إنما قُدّر عليهمالنفاق لرجوعهم عن الإيمان إلى الكفران، واستبدالهم الضلالة بالهدى ‏{‏فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ‏}‏ أي‏:‏ فلا يصل إلى قلوبهم هدى، ولا يخلص إليها خير، فلا تعي ولا تهتدي‏.‏

‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ كانوا أشكالا حسنة وذوي فصاحة وألسنة، إذا سمعهم السامع يصغي إلى قولهم لبلاغتهم، وهم مع ذلك في غاية الضعف والخَور والهلع والجزع والجبن؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ كلما وقع أمر أو كائنة أو خوف، يعتقدون، لجبنهم، أنه نازل بهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 19‏]‏ فهم جَهَامات وصور بلا معاني‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ‏}‏ أي‏:‏ كيف يُصرَفون عن الهدى إلى الضلال‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد، حدثنا عبد الملك بن قُدَامة الجُمَحي، عن إسحاق بن بكر بن أبي الفرات، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري‏.‏ عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن للمنافقين علامات يعرفون بها‏:‏ تحيتهم لعنة، وطعامهم نُهبَة، وغنيمتهم غلول، ولا يقربون المساجد إلا هُجْرا ولا يأتون الصلاة إلا دُبْرا، مستكبرين لا يألَفون ولا يُؤلَفون، خُشُبٌ بالليل، صُخُب بالنهار‏"‏‏.‏ وقال يزيد مَرةً‏:‏ سُخُبٌ بالنهار